السبت، 8 مايو 2010

أنا00 وأدباء مصر " 13" الجزء الثانى

شيخ النقاد الأستاذ الدكتور عبد القادر القط

فى مكتب السيد المحافظ
كان المحافظ محمد حسين مدين قد طلب منى أن أخبره بميعاد إقامة المهرجان عندما يتم تحديده ، وبالفعل قابلته فى مكتبه وأخبرته بالميعاد ، وأيضا بعدد الضيوف الأدباء الذين سيحضرون من القاهرة ، وكان سيادته يعرف مسبقا الأستاذ عبد التواب يوسف ، والدكتور أحمد عتمان ، ودهش جداً من مقدرتى على تجميع مثل هذا العددد من كبار الأدباء فى مهرجان واحد خارج القاهرة 00وعندما سأنى عن موعد بدء المهرجان بقصر الثقافة ، أخبرته أنه الثامنة مساء ، فسألنى عن موعد وصول الضيوف لبنى سويف ، أخبرته أنهم يصلون فى الثالثة ظهراً ، فأمرسيادته بتجهيز الاستراحة الخاصة بالمحافظة لاستقبالهم بعد تناول وجبة الغداء ، ليستريحوا بها بعض الوقت ، ثم طلب أن يستقبلهم فى مكتبه فى تمام السابعة ، ويستمر اللقاء حتى الثامنة حيث يبدأ المهرجان 0
فى صباح يوم المهرجان سافرت إلى القاهرة ، وتوجهت إلى مقر الثقافة الجماهيرية حيث كانت قد خصصت لنا أتوبيسا نستقله من القاهرة إلى بنى سويف والعودة 00فى الميعاد وصل الدكتور القط ومعه الأستاذ عبد الله خيرت ، وركبنا ثلاثتنا الأتوبيس حيث طلب الأستاذ عبد التواب يوسف والدكتور أحمد عتمان الحضور بوسائلهما الخاصة ، وأيضا كنت قد اتفقت مع الصحافية المشهورة " ناهد عز العرب " من مجلة الإذاعة والتيفزيون على الحضور لتغطية المهرجان 0
وصلنا إلى بنى سويف ، ووصل أيضا باقى الضيوف 00وسار البرنامج تماما كما هو معد له ، وفى تمام الساعة السابعة مساءً كنا ندخل إلى مكتب السيد المحافظ الذى فؤجئت به يقف على باب مكتبه لاستقبالنا ، ومع الحفاوة البالغة قاد الضيوف إلى الداخل ، كانت السعادة بادية على وجه السيد المحافظ ، ودارت مناقشات رائعة بينه وبين الضيوف ، ولما كانت هذه هى المرة الأولى التى يلتقى فيها بالدكتور القط لذا بدت حفاوته به أكثر ، وأثناء المناقشات أشاد الدكتور القط بى كثيراً ، وحذا حذوه باقى الضيوف ، وأشهد أن اللواء محمد حسين مدين كان واسع الثقافة والاطلاع بدرجة لم أشهدها فى أى محافظ غيره 0 وقد تم تصوير هذا اللقاء بكاميرات الفيديو الخاصة بالمحافظة0
دون أن نشعر وجدنا الساعة تقترب من التاسعة إلا الربع ، نهضنا جميعا وتوجهنا إلى قصر الثقافة حيث بدأ المهرجان فى التاسعة ، وانتهى فى الثانية عشرة ليلا ، وأصر السيد المافظ على حضور المهرجان حتى النهاية 0وصعد بنفسه إلى خشبة المسرح لشكر الضيوف وتهنئتهم 00ولقد كان هذا المهرجان من أنجح وأقوى المهرجانات الأدبية التى شهدتها بنى سويف حتى الآن 0
بعد أيام وصلنى خطاب شكر من السيد المحافظ ، وأيضا تمت الموافقة على تسليمى الشقة السكنية ، وهى التى أعيش فيها الآن 0
الخليل بن أحمد الفراهيدى أولاً
كان من الطبيعى أن تتوطد الصداقة بعد هذا المهرجان بينى وبين الدكتور عبد القادر القط ، وتعددت لقاءاتنا ، وكثرت جلساتنا فى مكتبه بمجلة إبداع وكنت الوحيد تقريباً من محافظة بنى سويف الذى تنشر أعماله بهذه المجلة الأدبية العريقة وكثيراماكان يعطينى أثناء جلساتنا بعض الأعمال الأدبية التى ترد إلى المجلة لقراءتها وإبداء الرأى فيها 00وأذكر واقعة حدثت أمامى ، فأثناء جلوسنا بمكتب المجلة حضر شاب واستأذن فى الدخول ، ثم أخرج من جيبه ورقة مطوية وهو يقول للدكتور القط : أنا شاعر وأريد نشر هذه القصيدة بالمجلة 00تناول الدكتور منه القصيدة ونظر فيها قليلاً ثم أعادها إليه وهو يسأله : أى نوع من الشعر هذا ؟ فرد الشاب : إنها من الشعر الحديث ، أقصد قصيدة النثر 00فسأله الدكتور القط : هل كتبت الشعر الخليلى ، يعنى الموزون والمقفى ؟ 00قال الشاب : لا 00فقال الدكتور القط 0هل تعرف بحور الشعر الخليلى ؟00رد الشاب: لا 00وهنا قال الدكتور القط : يابنى تعلم أولاً الشعر العربى واكتب به ، ثم بعد ذلك أقبل منك هذا الشعر الحديث ، " يابنى الخليل بن أحمد الفراهيدى أولا"0
صالون كازينو غرناطة
بعد أن ترك الدكتور عبد القادر القط رئاسة تحرير مجلة إبداع ، كان لابد أن نلتقى ، وهنا أخبرنى الدكتور القط بأنه يجلس صباح كل يوم جمعة مع بعض من أصدقائه فى كازينو هادئ جميل بضاحية مصر الجديدة واسمه " كازينو غرناطة " وتستمر جلسة الأصدقاء حتى موعد صلاة الجمعة ، وقال لى إنه يسعده أن أنضم إلى هذه الجلسة إذا أردت ذلك 0
أصبح السفر إلى القاهرة والذهاب إلى كازينو غرناطة كل جمعة طقسا من طقوس حياتى 0أنام مبكرا الخميس ليلا ، لأصحو مبكرا صباح الجمعة ، أبدأ السفر لأكون فى تمام الساعة التاسعة جالسا على مقعدى بالكازينو ، وغالبا ماكنت أصل قبله بدقائق ، وعندما جاء ورأنى أول مرة ، فوجئ تماما ، وأقبل على سعيدا يحيينى بشدة ، وكأنه لم يرنى منذ سنين ، ذلك لأنه لم يكن يظن أننى سأحضر بالفعل من بنى سويف للمشاركة فى جلسته الأسبوعية ثم العودة مرة أخرى ، وسألنى : ألا تجد مشقة فى الحضور والعودة ؟! وكنت أجيبه بأننى أجد سعادة بالغة ، ولذة لاأجدها فى أية متعة أخرى 0وكان هذا حقيقياً 0وأعتقد أن هذا كان وراء الاحتفاء بى المستمر طوال الجلسة 0
بعد وصوله بحوالى نصف ساعة يبدأ وصول رفاق الجلسة تباعا ، ولاتأتى العاشرة إلا ويكون قد اكتمل عقدهم ، وكانوا عبارة عن خلاصة مثقفى ومبدعى مصر ، وهنا تتحول الجلسة إلى صالون يشبه صالون العقاد 0 وكنا نقضى حوالى ثلاث ساعات فى الاستماع إلى آخر ماأنتجته عقول هؤلاء المبدعين الأفذاذ من شعر وقصة وخلافه بالإضافة إلى المناقشات الأدبية الرائعة 0ولاأنسى يوم أن عرضت عليه إحدى قصصى ، وكنا بمفردنا قبل وصول الرفاق ، وكيف فرح بها جداً ، وأبدى بعض الملاحظات المهمة ، وبعد حضور الرفاق أصر على أن اعيد قراءة القصة عليهم مرة أخرى 0
فى إحدى الجلسات فوجئت به يسألنى عن الشاعر الكبير محمد سلطان لطيف ابن بنى سويف ويقول : هل تعرفه ؟ وأجبته : نعم بالطبع فهو من أشعر شعراء بنى سويف 00وإذا به يكمل : ومن أشعر شعراء مصر أيضاً 00واكتشفت أن هناك صداقة وطيدة بين الإثنين وإعجاب متبادل أيضا 0وكان الدكتور القط يحرص دائما على إهدائه مؤلفاته ومازال الأستاذ محمد سلطان يحتفظ بها حتى الآن 0
هواية التصوير
كما ذكرت ، فقد كنا نجلس بمفردنا فى الكازينو مدة لاتقل عن نصف ساعة قبل حضور باقى الرفاق ، وفى إحدى هذه المرات وجدته يخرج من حقيبته الصغيرة صورة فوتوغرافية فى حجم كف اليد ، ويقدمها لى قائلا : هل تستطيع أن تعرف صورة أى شئ هذه ؟ 00 تناولت الصوره ونظرت ودققت النظر ، لكننى لم أستطع أن أحدد ، إنها تصور شيئا يشبه الشعب المرجانية ، أو خيوط العنكبوت ، لكنه قال لى : لاهذا ولاذاك 00حاولت أن أصل لحقيقة مافى الصورة ، لكن باءت كل محاولاتى بالفشل 0ضحك هو أخيراً وقال : إن ماتراه فى الصورة هى تلك الترسبات التى وجدتها بالبانيو فى حمام منزلى ، وأغرتنى خطوطها الهندسية العجيبة بالتقاط هذه الصورة لها بكاميرا التصوير الخاصة بى ، وعلمت بعدها أن هوايته الكبرى بعد الأدب هو فن التصوير ، وهو يعد بحق مصورا فذا محترفا 0
الرجل النبيل (جنتلمان )
الدكتور عبد القادر القط كان مثالاً للرجل النبيل ، دمث الخلق وهو مايطلقون عليه فى اللغة الانجليزية " جنتلمان " طريقة حديثه للآخرين ، أسلوب تعامله مع مرؤسيه ، نظراته الحانية للأدباء الصغار أو المبتدئين أثناء إسدائه النصح لهم ، تعامله مع النادل الذى يحمل إلينا المشروبات فى الكازينو ، حكمته فى إدارة العلاقات مع الجميع ، رقته البادية مع كل من حوله 0كل ذلك كان يشهد بأنه رجل شديد الرقى ، لذلك كان محبوبا من كل الناس ، فى كل مكان0
أذكر أننى لظروف طارئة تخلفت عن حضور صالونه الأدبى بكازينو غرناطة ، فإذا بى فى مساء نفس اليوم أسمع رنين الهاتف فى منزلى ، وأجد صوت زوجته بلهجته الرقيقة ، ولكنته الأجنبية تقول: الأستاذ ِسماعيل ؟ قلت فى سرعة وقلبى يدق ، لأننى أعرفها : نعم أنا 00قالت : الدكتور يريد التحدث اليك ، ثم سمعت صوت الدكتور القط يقول: أستاذ ِسماعيل هل أنت بخير ؟
أجبته : نعم والحمد لله 00فقال : الحمد لله فقط كنت أريد الاطمئنان عليك ، لأنك تخلفت عنا اليوم ، وافتقدناك كثيراً 00شكرته ووعدته أننى بإذن الله سأكون موجودا فى الصالون القادم0
بعد هذه المكالمة ظللت فى نشوة ودهشة فترة غير قصيرة ، فلم أعتقد أن هذا الرجل يذكر غيابى عن مجلسه مع كثرة الحاضرين ثم يهتم بى لدرجة اتصاله من تليفون منزله لمجرد الاطمئنان 0
فى النهاية أقول : الدكتور عبد القادر القط كان رجلاً يندر تكراراه فى حياتنا الثقافية ، وفقدنا برحيله عن عالمنا نموذجا من النماذج القليلة للأصالة ، والشهامة ، وحب الخير للجميع ، رحمه الله رحمة واسعة 0




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق